فوق
   
 
  نشوء المدن الاولى في العراق

نشوء المدن الأولى في العراق
 

د. علي ثويني(*)

شهدت أرض العراق أول تجارب التجمع البشري بما يدعى «المدينة» أو «الحضارة»، ووردت أسماء أقدمها في رُقُم سومر الطينية عندما صنفتها إلى قبل وبعد الطوفان. فقد كانت خمس مدن قبل الطوفان هي أريدو(أبو شهرين)، وبادتبيرا (لكش)، وأرك (الحسينية في الكوت)، وسبار ثم شروباك.
وليس مصادفة، على ما يبدو، أن تظهر كل المدن السومرية الرئيسية في مكان مستوطنات الحضارة العبيدية السابقة لها، واحتفظت بأسمائها. وبذلك نعتبر أن السومريين كانوا ربما مؤسسي الثقافة العبيدية في جنوب العراق، في أواخر الألف الخامس ومستهل الألف الرابع ق.م، أو ربما وارثين لهم، ومقتفين أثرهم في عمران المدن وممارسة العمارة. وكان لظهور المدن المبكرة ولأشكالها ووجودها مبررات؛ كأن تكون (حول المعابد، على الطرق التجارية، مخافر أمامية عسكرية، ملاجئ.. الخ). ويمكن إدراج كذلك النظرية (الهيدروليكية) أو نظرية (الري)، التي تعود إلى (ويترفوغيل) فهو يؤكد أن ظهور النظام المتشعب للأراضي المروية أعطى دفعا لتطور (ثورة المدن) في (بلاد ما بين النهرين)، وأن أنظمة الري كان لابد وأن تولد المدن والدولة (الاستبدادية) حتماً من حيث الشكل والحضارة. وقد أطلق (غودنغ تشايلد) في حينه على هذه الخطوة الحاسمة في التاريخ القديم اسم (ثورة المدن)، بالرغم من أن هذه (الثورة) استمرت أقل من خمسة قرون بقليل. وهكذا نجد وصفاً لمدينة نيبور السومرية في القصائد والأساطير والأناشيد المكتوبة تعكس وظيفتها القديمة: دفاعية أي (المدينة حصن وملجأ).
ويعزي الروسي (دياكونوف) تطور المدن إلى الحركة التجارية بين المدينة والقرية من خلال المجاري المائية وتصريف البضائع الزائدة عن الحاجة. واعتقد كذلك أن تدفق الثروات المستولى عليها في الحروب إلى هناك، وسبي الصنّاع المهرة ممن يقيمون بلا كلل المزيد والمزيد من المعابد والقصور والتماثيل أدى إلى توسع المدن. وكان هيئة المدينة حينئذ ما ندعوه اليوم (المدن - الدول) أو ما يسمونها (النومات) عند تخوم الألفين الرابع والثالث ق.م. حيث يوجد مركز الأديان المشتركة وإدارة المنطقة بأسرها، وكان قد استعمل هذا المصطلح في علم الآثار المصرية (نوم)، ولكنه يسمى بالسومرية (كي) وهكذا ظهرت المدن المستقلة بسومر. ويأتي في إحدى الرُقُم الطينية النص الشعري التالي (أي سومر أيتها الأرض العظيمة بين كل أراضي الكون.. أنت الذي يغمرك ضوء لا يخبو يا من تسنين القوانين الإلهية لكل الشعوب.. من المشرق إلى المغرب).
كل ذلك المجد الذي أحيط بسومر بالرغم من أنها بلاد صغيرة نسبياً، حيث مساحتها أصغر بعضٍ الشيء من مساحة بلجيكا المعاصرة. ومناخها جاف وحار. ولذا، فإن (مهد الحضارة) هو عمليا، شريط من الأرض يمتد من خط عرض بغداد إلى الأهوار وتخوم الخليج.
وكان كل (نوم) يضم عدة مدن إقليمية كبيرة خاضعة لبعضها. ويبدو أن كل (نوم) وقبل تركز السكان في مدائنه وشق نهر بينها، كان يشكل وحدة اقتصادية وسياسية طالما بقي هذا النهر قائماً.
وهكذا وجد على تخوم الألفين الرابع، والثالث ق.م. مجموعة من المدائن أهمها:
1 - وادي ديالى ومركزه في اشنوناك (أطلال تل أسمر).
2 - سيبار(أبو حبة المعاصرة)، اله أتو.
3 - كيش (تل الأحيمر المعاصرة)، اله زباباة.
4 - نيبور (نفر المعاصرة)، اله أنليل.
5 - شورباك (فارة المعاصرة)، اله شورباك.
6 - ارك (الوركاء المعاصرة) ،اله آنا (آنو) وانين أو أنانا (عشتار)، وقد تكون من اندماج عدة مستوطنات.
7 - أور(تل المقير المعاصرة)، اله نانا.
8 - ادب (بسمايا المعاصرة)، الهة دينكيرماخ.
9 - آما (جوخه المعاصرة)، اله شارا.
10 - لاراك.
11 - لكش، ويضم مدن نكرسو، لكش، نينا اوسيراران، وميناء كوابا على ضفة الهور، وغيرها.
وبناء على المعطيات الأثرية المتوفرة كان يوجد في مستهل الألف الثالث ق.م. في أرض سومر، من بغداد إلى البصرة، ما يقرب من خمس عشرة مدينة (دولة صغيرة) ذات حكم ذاتي، وكانت لكل منها سلالتها من الحكام. في فترة السلالة المبكرة (منذ عام 2750 ق.م.). وتذكر النصوص المسمارية أسماء 13 (مدينة – دولة) كهذه مثبتة الآن في الخرائط الجغرافية المعاصرة، وهي: سيبار، بهيش، وأكشاك، ولاراك، ونيبور، وادب، وآما، ولكش، وباد - تيبا، وارك، ولارسا، وأور، وأريدو.
لقد ورد في الأساطير الأولى للعراقيين، بأن المدينة تستمد بقاءها من جريان النهر، وادعت البابلية منها أن المدينة جاءت من اتحاد الماء والفوضى. فهم يقولون أن ثمة وجود فوضى في البدء رافقه نوعان من المياه؛ العذبة منها (أبسو) والمالحة (تايمات). وفي هذا الوسط ولد (لاهمو) و(لاهامو) وأصبح لهما أبناء سيطروا على السماوات والأرض، إله السماء (أنو)، وإله الأرض والهواء (انليل)، وإله المياه (آيا)، وربما لأن آيا صاغت فكرة النظام، فقد أثارت بذلك عدواة أبسو وتايمات، وتنتهي العداوة بحرب حطم فيها مردوخ (ابن آيا) غريمه تايمات. وبذلك يستنتج أن المدينة هي حافظة السلطة ومصدر النظام المادي والنفوذ، وبأن النظام لن يكف عن محاربة الفوضى والسيطرة عليها(1).
إذا انطلقنا من الأساطير والحكايات السومرية، فإن آلهة السماء كانوا مؤسسي المدن الأولى. وليس مما يدعو إلى العجب أبداً أن تسمى المدن الخمس الأولى من هذه المراكز التي ظهرت بمثل تلك الطريقة الخارقة (مقدسات) تمارس فيها عبادة أهم الآلهة السومرية. ويرد بنص لتلك القدسية: (حينما.. هبطت السلطة الملكية من السماوات، حينما هبط التاج الرفيع والتاج الملكي من السماوات، وضع (الاله ف.غ.) الشعائر والقوانين الإلهية العليا.. وأسس خمس مدن في أماكن مقدسة ، ومنحها أسماء وجعلها المقدسات الرئيسية). تلكم هي أسماء هذه المدن: أريدو، وباد - تيبيرا، ولاراك، وسيبار، وشورباك.. وقد اقترن تأسيس المدن بأسماء الملوك، ونجد أشهرهم الملك (اورنمو)، حيث شكل مع غيره رعيلا، كانوا دوما يعزون إلى أنفسهم شرف هذا البناء. نقرأ على مخروط آجري، إهداء بالكتابة المسمارية على شرف الشروع في بناء معبد جديد: (كي بار) الرائع هذا شيده اورنمو، حيث يصفه: (الرجل الجبار، ملك اور، ملك سومر وأكد، تمجيداً لربته ننكال).
وعلى الرغم من انعدام وحدة الدولة الثقافية الكاملة (وجود عبادات الآلهة المحلية، والأساطير المحلية، والخصائص الإقليمية في النحت والحفر على الأحجار الكريمة والفن التشكيلي، ولهجات اللغة)، فأن طوائف سومر كانت متقاربة عموماً من الناحية الثقافية. وهنا نعزو إلى ملامح هذا التقارب من خلال تسميتهم بالسومرية (سود الرؤوس، لاسانغنغيغا). وكانت عبادة الإله الأعلى المشتركة عند السومريين اله الهواء انليل في نيبور، إضافة إلى التقاليد المشتركة للعمارة والرموز الدينية، ونظام الكتابة الموحد لكل الأرض السومرية.

أوروك وأور:
ومن أكثر المدن أهمية هي أوروك أو الوركاء (معربة)، (أرخ لها في الكتاب المقدس وكان اليونانيون القدماء يعرفونها بأسم (أرخ) أو (اورخى) ولا نعلم تداخلها مع إصطلاح «التاريخ» العربي.
ولقد أدرك العلماء، أخيرا أنها كانت أعظم مدن الدنيا، ولا توجد في العالم مدينة عاشت أمداً كهذا أكثر من 3000 سنة. حتى بابل وروما لا تستطيعان منافسة أوروك في هذا المضمار. وفي أواسط الألف الثالث ق.م. كانت أوروك من أقوى العواصم في سومر. كانت أراضيها تشغل من 450 هكتاراً إلى 500 هكتار، وكان عدد سكانها يصل إلى 75000 نسمة. وكانت المدينة محاطة بأسوار آجرية تمتد قرابة 10 كم. وتعزو الأسطورة بناء الأسوار الجبارة حول أوروك إلى البطل الأسطوري الحاكم كلكامش. وهناك ما مجموعه 800 برج للحراسة. إذ إن هجوم القوات الساسانية (ربما في المئة الثالثة ق.م.) واحتلال أوروك ونهبها أرغم من بقي سالماً من سكنتها على مغادرتها على عجل والنجاة بأرواحهم.
إنّ أور، شأن أوروك، وجدت زمناً طويلاً جدا،ً من الملوك السومريين الأوائل إلى أزمنة داريوس والاسكندر المقدوني، ولم تستطع الغزوات المعادية الكثيرة ولا النكبات الطبيعية أن ترغم سكانها على مغادرة ذلك المكان الذي بقي عامراً، على امتداد القرون. ولكن ما لم تستطع أن تفعله جحافل الغزاة فعلته الطبيعة. لقد غير الفرات مجراه فجأة وابتعد قرابة 16 كم إلى الشرق من أسوار المدينة . كان يستحيل في ذلك الوادي المحرق العيش بلا ماء ولو ليوم واحد. وما لبثت أور أن تحولت إلى مجموعة من التلال لا شكل لها ولا مظهر يغلب عليها لون الصحراء المكفهر، حتى حلول العام 1854، حيث تثبت من موقعها (تيلور) القنصل الإنكليزي في البصرة على نحو دقيق لأول مرة ووجدها أنقاضاً وركاماً يعرفها العراقيون باسم (تل المقيّر). وهذا ما أكدته بكل جلاء الألواح الاجرية المسمارية التي عثر عليها في الموقع. بيد أن علماء الآثار لم يباشروا الحفريات الواسعة في أراض أور إلا بعد عدة عقود.
حيث حدث في عام 1922م أن بدأ الأنكليزي (ليونار وولي) عملا استمر اثني عشرة سنة في المنطقة الوسطى من الأطلال العملاقة. ويرد في إحدى الرُقُم الطينية نشيد سومري يصور أسطوريا حلول الكارثة وبوادر درس أور: (العاصفة التي أثارها انليل الغاضب، العاصفة التي دمرت البلاد غطت أور كمنديل، لفتها ككفن.. أيها الأب نانا، هذه المدينة تحولت إلى أطلال). ففي العراق العتيق كانت كل المستوطنات، من المدينة المتروبول العملاقة إلى القرية المكونة من عدة أكواخ، تقابل على ما يبدو مفهوم التجمعات الريفية. وفي هذا الصدد يقترح (دياكونوف) الاقتصار على الفرز التصنيفي للمستوطنات التي كانت توجد حولها مجموعة من البلدات الأخرى الخاضعة لها، والأقل أهمية والأقل حجما (Alu,Uru)، باللغة الأكدية (Karu) وباللغة السومرية (Kar).
لاحظ قربها من كلمة قرية! وثمة منطقة تشكل الجزء الثالث من المدينة هي منطقة الحرس، وهو مركز النشاط التجاري ولاسيما المرتبط بالتجارة الخارجية. وهكذا فإن (الكارو) لا يطابق ميناء القرون الوسطى المبكرة من حيث الوظيفة فحسب، بل من حيث التسمية أيضاً. كان (الكارو) مستقلاً من الناحية الإدارية، وكانت له صفة قانونية خاصة، الأمر الذي انطوى على أهمية بالنسبة إلى سكان المدينة الذين يسيرون شؤونهم هناك. كان يعيش في (الكارو) التجار الغرباء، وكانت عندهم دكاكينهم.
إن التجارة النهرية لأور أوصلت سفن السومريين إلى (دلمون) التي هي اليوم البحرين، وكانت تعتبر قديما الجنة المفترضة للخلود السومري. وكانت لأور أيضاً معاملات مع (مكان) بالكاف الفارسية، التي هي اليوم سلطنة عمان، ومع بلاد الهند، و (موهانجو جارو) المدينة المحاكية لأور في الباكستان اليوم. ثمة حركة تجارية نشطة نجد أثرها في نفائس الفن السومري اليوم، حيث الأحجار الكريمة التي جلبت من مناجم (باداكشان) في أفغانستان، والفخار المميّز من كرمان وسط إيران. ويقال إن تجارة أور امتدت شمالاً حتى أرمينيا. غير أن أهم ما يميز المدينة ارتباطها بالرؤى التوراتية الأولى عندما اعتقد منقبها الأول والذي اكتشف أغلب تراث المدينة و أهمها كنوز مقبرتها الملكية التي تعود إلى ملوك و أمراء سلالة أور الثلاثة، العلامة البريطاني (ليوناردو وولي)، وكما جاء في مذكرات مرافقه في رحلة التنقيب، العالم الأثاري (ماكس مالوان - زوج الروائية الانجليزية آجاثا كرستي)، قوله: كانت المغريات التي اجتذبت وولي للعودة إلى أور في ذلك هائلة، لأنها كانت مدينة مبجلة ارتبطت ارتباطا وثيقا بالعهد القديم، وكان ما يزال هناك عدد كبير من قراء الكتاب المقدس.
لقد امتزجت الأساطير بوقائع المدن ونشوئها، وأشهر ملوكها وهو (أور- نمو) أمير العمران، كما تثبت تماثيله وصوره حامل المجن (طاسة البناء) على رأسه وهو يشيد الزقورة الشامخة في ذات المكان وهي أول بناء صرحي اختيالي في تأريخ الحضارات لنوازع روحية و مقاصد إيمانية ونفسية يراد منها تكريس الرهبة من الحجوم وسامق البناء الذي يكرس الإيمان، وهي غاية بحد ذاتها استمرت حتى يومنا في إظهار السطوة الدينية أو السياسية من خلال الصرحية المعمارية المفرطة. وطبيعة بناء الزقورة نصبي ورمزي، أي كان الشكل فيها يأخذ السبق، مع قدرة المعمار في إضفاء الصفة الوظيفية على فضاءاتها. فمثلاً سلمها وفعل الارتقاء كان مقصداً يراد منه الإرتقاء والسمو إلى الآلهة الساكنة في العلى. ويرجع تأريخ تلك الزقورة إلى أكثر من 5000 عام، وكان ارتفاعها الأصلي يبلغ 70 قدماً، ولها ثلاث سلالم كل سلم من 100 درجة، و كانت كل آجرة قد ختمت بختم واسم الملك السومري (أور- نمو). وكانت الطبقات تبنى من مداميك الطوب مع طبقات من الحصر العراقية (البواري) لتشكل حالة من التسليح الذي يعتمد الالتصاق مع خامة الطين، ولدرء الانزلاق في أجزائها.
وهكذا اكتسبت أور القدسية حينما تراكبت فيها الحضارة والعمارة والعقائد، بما يؤكد الآصرة بين التمدن والعقائد. لهذا يحق لنا أن نقول عن أور أنها واحدة من مدن بدايات الدعوات الروحية الكبرى، وما زال الأمر نافذاً إلى يومنا بما يمثله ولادة ونشوء إبراهيم الخليل(عليه السلام) للدنيا، الذي يمكن أن يعاد له الاعتبار والحظوة في عراق الغد. ويبدو أن السير الحضاري لوجود المدينة كان مرهونا بالإرادة السياسية لملوكها الذين عاشوا صراعات لا تنتهي مع السلالات المجاورة والممالك الإقليمية، حتى دفعت ثمن نهاية ملكها إلى الأبد في معركتها الأخيرة مع الحياة عندما غزتها مملكة عيلام الجارة وأدى ذلك إلى إحراق المدينة عن بكرة أبيها وانتحار ملكها المسمى (أبي – سين) ونقل إلهها (سين) اله القمر ليعبد هناك.
ارتبطت مدينة أور بهاجس حضاري متقدم هو هاجس الموسيقى والشعر، فقد كشفت تنقيبات وولي في مقبرة أور أقدم الآلات الموسيقية وأهمها، قيثارة الملكة السومرية (بو - آبي) والتي

نوافـــذ
 

صحف محلية و عربية





















اعلام
 
السلام عليكم .. انت الزائر رقم صفحة جديدة 1

BBC نشرة

اضغط هنا لتستمع إلى آخر نشرات الأخبار

BBC مباشر

اضغط هنا لتستمع إلى بث راديو لندن على الهواء مباشرة
______________ موسوعة الارقام 2007 بالعربي

___________ _______
خدمات
 
Google
 
Today, there have been 1 Besucher (32 Hits) on this page!
صفحة جديدة 1
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free